يتم التشغيل بواسطة Blogger.

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أرشيف المدونة الإلكترونية

رسالة الى الرئيس الفنزويلى

09/12/2007 رسالة إلى الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز د. فيصل القاسم لا شك أن الكثيرين، وأنا منهم،  طبـّلوا وزمّروا لك يا سيادة الرئيس الف...

إذا كانت هذه هي زيارتك الأولى لقالب كن مدون المقدم من المبدع ويب يرجى الإشتراك ليصلك جديدنا

رسالة الى الرئيس الفنزويلى

09/12/2007


رسالة إلى الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز
د. فيصل القاسم
لا شك أن الكثيرين، وأنا منهم،  طبـّلوا وزمّروا لك يا سيادة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز في السنوات القليلة الماضية، على اعتبار أنك كنت أشبه بـ"روبن هود" لاتيني عظيم جاء لينشتل عموم الفقراء في بلده على حساب الحيتان والقطط السمان. وقد تمكنت مشكوراً فعلاً من تحقيق الكثير في مجال تحسين الأوضاع المعيشية والصحية لملايين الفنزويليين. ومما زاد في استحواذك على قلوب العرب أنك ناطحت أمريكا في حديقتها الخلفية بشجاعة نادرة، وذلك بإعادة الاعتبار للاشتراكية ومحاولة تأميم الثروات الوطنية.
لكنك يا فخامة الرئيس  تشافيز، على مايبدو، لم تحد قيد أنملة عن خط الزعماء العرب والعالمثالثيين الذين بدأوا "حلوين وطيبين" ليتحولوا فيما بعد إلى مستبدين وشموليين، كما جرت العادة. ما حدا أحسن من حدا.
كم كنا نتمنى لو أنك يا سيادة الرئيس احتفظت لنفسك بصورة ذلك القائد الاشتراكي الديموقراطي الذي أعادته الجماهير إلى سدة الحكم بسواعدها وأصواتها بعد الانقلاب الذي شنه عليك أرباب الشركات والمصالح الكبرى في البلاد المرتبطون بالبيت الأبيض. لقد سطع نجمك يا سيدي لأنك اخترت الطريق الديموقراطي الشعبي للوصول إلى السلطة، وكنت ربما أول رئيس عالمثالثي يفوز  بنسبة عالية حقيقية من أصوات الشعب دون تزوير أو فبركات. وقد اكتسح حزبك قبل فترة الانتخابات البرلمانية بجدارة. لكن بدلاً من أن تجاري الديموقراطية التي حملتك إلى سدة الحكم وتحترمها، رحت يا سيادة الرئيس  تشافيز تتحايل عليها، إلى حد أن البعض شبهك ببعض الإسلاميين الذين يدخلون اللعبة الديموقراطية كي يصلوا إلى السلطة، ومن ثم يضربون بها عرض الحائط  لتكون الديموقراطية بالنسبة لهم مجرد منصة انطلاق.
فقبل فترة بدأت بالعمل على تمديد فترة الرئاسة، هذا فيما تعمل الدول الديموقراطية الحقة على تخفيض فترتها.
ليس عندي شك بأن سيادتك قد أصبت بلوثة الزعامة العربية لكثرة ما ترددت على العالم العربي في السنوات الماضية. ومن الواضح أنك بدلاً من أن تصدّر للحكام العرب بعضاً من ديموقراطية فنزويلا الطيبة، استوردت منهم الحكم الشمولي مدى الحياة. وربما أيضاً تأثرت برفيقك حاكم كوبا الرئيس فيديل كاسترو الذي لم يبارح الحكم منذ أن تسلمه أول مرة. لقد سمعت بعض مستشاريك يا سيادة الرئيس تشافيز يتذمرون من النظام الكوبي وطريقة حكمه ذات مرة، لا بل أكدوا أن النظام الفنزويلي مختلف تماماً في اشتراكيته الديموقراطية الحقيقية عن نظام كاسترو. لكن العكس قد حصل هنا أيضاً، فبدلاً من أن تنقل قليلاً من ديموقراطية فنزويلا إلى هافانا يبدو أنك بدأت تأخذ الكثير من شمولية كوبا.
لقد أصيب محبوك يا فخامة الرئيس تشافيز في العالم العربي بخيبة أمل كبرى عندما شاهدوك تدعو الجماهير الفنزويلية للاستفتاء على تعديل دستوري يسمح لك بالترشح للرئاسة مدى الحياة. بالله عليك يا سيادة الرئيس كيف تختلف عن الزعماء العرب الذين يتلاعبون بالدساتير، ويطولونها، ويقصرونها حسب الطلب؟ كيف يا سيادة "البرزيدانتي" تختلف عن جنرالاتنا الذين شاخوا على كراسي الحكم عندما تقول: "إن "الله لو أعطاني العمر سأكون على رأس الحكومة حتى عام 2050"، أي أنك ستكون في سن الخامسة والتسعين وقتها. لماذا تريد أن تحكم الشعب الفنزويلي وأنت تستطيع بالكاد تحريك يديك في تلك السن، فما بالك رجليك؟
ألا تعلم يا سيادة الرئيس أن الحاكم يستنزف نفسه بعد عشرة أعوام فقط في الحكم لأسباب فيزيولوجية وعقلية؟ وما أدرانا أنك لن تورث الحكم إلى أحد أبنائك الميامين بعد أن تنتقل يا سيادة "الكومراد" إلى الرفيق الأعلى، أو تصبح غير قادر على التحكم بوظائفك الجسدية؟
ثم كيف تختلف عن الزعماء العرب عندما تصف المنشقين عن معسكرك بـ"الخونة"؟ هل كل من يختلف معك خائن؟ ألم يكن أجدر بك أن تصفهم بالمعارضين احتراماً للديموقراطية؟ ألست كالزعيم العربي الذي وصف معارضيه بـ"الكلاب الضالة"؟
ثم  لماذا تريد يا سيادة الرئيس تعديل الدستور كي يسمح لك بفرض قوانين الطوارئ وقتما تشاء؟ ليتك أخذت رأي الشعوب العربية التي تحبك والتي ترزح تحت قوانين استثنائية حولتها إلى أنعام وقطعان كسيحة! ثم هل كان شعبك الأبي سيعيدك إلى سدة الرئاسة من خلال انتفاضة شعبية عارمة في غضون سبع وأربعين ساعة لو كان في بلدك فنزويلا قوانين طوارئ كتلك التي تكبل الشعوب العربية بالحديد والنار؟ بالطبع لا. إن نظامكم الديموقراطي هو الذي سمح لمحبيك من الشعب الفنزويلي أن يعيدك من منفاك بسرعة البرق إلى كاركاس. ولو كان في بلدكم قوانين طوارئ كتلك التي تنوي فرضها، لما استطاع أي من جماهيرك أن يخرج إلى الشارع لدقائق، ولكانت السلطات أطلقت عليهم النار حتى لو لم يبلغ عددهم خمسة متظاهرين، ولاختفيت أنت عن الساحة إلى غير رجعة، أو أمضيت باقي أيامك في زنزانة من زنازين عالمنا الثالث الغراء.
 قد تقول لنا إنك طرحت الأمر على الجماهير في استفتاء عام، ثم رفضوا الفكرة، وكان الله يحب المحسنين. وهذا لا شك طيب جداً، على اعتبار أن كل الاستفتاءات العربية حول تعديل الدساتير تنتهي بنتائج تسعة وتسعينية مفبركة في أقبية وزارات الداخلية العربية. لكن العبرة في النية يا سيادة الرئيس، فيكفي أن نضعك في خانة المستبدين لمجرد أنك أجريت استفتاء لتمرير ذلك، وما زلت تحاول. لكن الشعب الفنزويلي أراد أن يقول لك من خلال رفضه تنصيبك رئيساً مدى الحياة إنه ما زال يحبك، حتى لو بدأت تروادك أحلام الطغاة والمستبدبن. ولو كنت مكانك لشكرت الشعب الذي أعادك إلى جادة الصواب.
قد تقول لنا يا فخامة الجنرال إنك تريد فترة حكم مفتوحة كي تطبق كل مشاريعك ورؤياك التي تحتاج لوقت طويل. لكننا سمعنا  مثل هذه الإدعاءات  والخزعبلات من العديد من الحكام العرب، فلم يحققوا شيئاً، فانتهينا إلى أنظمة عشائرية وفئوية استبدادية حولت الأوطان إلى مزارع خاصة.
قد تقول لنا إن أمريكا تتآمر عليك، وتريد إقصاءك. وهذا صحيح تماماً. لكن صدقني أن واشنطن ربما رضيت عنك الآن بعد أن بدأت تلمح فيك طبائع الاستبداد. لقد تآمر عليك الأمريكان لأنك جئت إلى الحكم من خلال صناديق الاقتراع الحرة، وهم لا يحبذون زعماء ديموقراطيين شعبيين من أمثالك وأمثال االليندي في أمريكا اللاتينية بعد أن استمرأوا حكم الجنرالات والطغاة من أمثال بينو شيه وغيره من السفاحين الذين كانت تنصبهم وتزيحهم وكالة الاستخبارات الأمريكية وقتما تشاء. أما الآن فأعتقد أن العم سام بدأ يرتاح لك بعد أن دخلت نادي الحكام المرغوب فيهم أمريكياً، وأعني بهم التائقين إلى الانتقال من كرسي الحكم إلى القبر، أي الذين لا يفضلون أن يناديهم أحد بالرؤوساء السابقين.
آه  لو لم تزر بلداننا العربية كثيراً يا سيادة الرئيس في االسنوات القليلة الماضية! صادقوك فعدوك!

إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

مواقع الكترونية يسارية بنكهة المحافظين الجدد

26/12/2007


هل الإعلام كائن موبوء كي يحجروا عليه في مدن إعلامية معزولة؟
د. فيصل القاسم
 تنتشر في العالم العربي منذ سنوات كانتشار النار في الهشيم ظاهرة المدن الإعلامية. والبعض يسميها ضحكاً على الذقون "مناطق إعلامية حرة"، فهي في ازدياد مستمر وتكاثر فطري. ومن المتوقع أن يرتفع عددها ليصبح بعدد الدول العربية أو أكثر. وتحتضن تلك المدن والمناطق مقرات ومكاتب مئات الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والأرضية العربية والدولية.
قد يأخذ البعض الانطباع أن إطلاق تلك المدن الإعلامية وتخصيص مناطق حرة لوسائل الإعلام هما خطوة حضارية، ومحاولة صادقة لإفساح المجال للإعلام كي ينشط في عالمه الخاص، بعيداً عن التأثيرات والضغوط المحلية والدولية. وكم كنا نتمنى لو أن الهدف هو فعلاً تحرير وسائل الإعلام ومنحها مناطق حرة لتصول وتجول على هواها، كون الحرية أوكسجين الإعلام الأول والأخير. لكن، ومع الأسف، فإن المدن الإعلامية تهدف، في واقع الأمر، إلى عكس ما يوحي به اسمها. أي أن الغرض منها التضييق على وسائل الإعلام، وحبسها في أماكن محددة لضبطها في أطر معينة، خاصة أن تلك المدن مكبلة بسلاسل من القيود والشروط والضوابط، وحتى يصعب الدخول إليها.
هل الإعلام العربي موبوء، أو مصاب بمرض الجذام أو الجرب أو الجدري أو السل، وغيرها من الأمراض المعدية كي يوضع في حجر صحي يسمونه مجازاً مناطق إعلامية؟ الواضح تماماً أن الأنظمة العربية الحاكمة ما زالت ترى في وسائل الإعلام مرضاً معدياً أو خطراً يجب تطويقه بأسياج وحيطان وجدران عالية.
لقد هرشت السلطات العربية رؤوسها، وتساءلت: كيف يمكن ضبط الثورة الإعلامية التي أطلقتها العولمة؟ كيف يمكن الظهور بمظهر المواكب للثورة المعلوماتية، وفي الوقت نفسه أضبط إيقاع تلك الثورة بطرق غير مباشرة؟ كيف أتعامل مع عصر ظاهرة خوصصة الإعلام المتنامية بشكل مذهل، ولا أبدو معرقلاً لإعلام السوق، أي القائم على المبدأ الحر، العرض والطلب؟ كيف أتعامل مع هذا الكم الهائل من وسائل الإعلام المتعددة الوسائط التي تتكاثر كالفطر، وأبقيها تحت السيطرة؟ وجدتها، وجدتها: لماذا لا أبني لها مناطق خاصة في أماكن جميلة مسيجة وبعيدة عن وسط المدن، وأسميها "مناطق حرة"، فأبدو مواكباً للعصر؟
هل سمعتم بمدن إعلامية في بقية أصقاع العالم؟ هل هناك في بلاد الديمقراطية الحقيقية أي مجمعات إعلامية معزولة؟ أليس من الغريب أن ظاهرة المدن الإعلامية ظاهرة عربية بامتياز؟
كيف نصدق أن غرض هذه المدينة أو تلك تحرير الإعلام وإطلاق العنان له إذا كانت السلطات في البلد الذي يحتضن إحدى المدن الإعلامية يكمم أفواه الصحفيين، ويسجنهم، ويطلق فتاوى لجلدهم وشيطنتهم لمجرد أنهم تحدثوا عن صحة الزعيم، أو تناولوا بعض القضايا البسيطة؟ كيف للمرء ألا يتعجب من هذا النفاق المفضوح؟ كيف نتفاخر بالمدينة الإعلامية مترامية الأطراف ومبانيها الفخمة والهائلة، ثم نضيق الخناق على الصحف خارج المدينة؟ أليست الحرية الإعلامية كلاً لا يتجزأ؟ وأرجو ألا يظن البعض أن المؤسسات الإعلامية داخل المدن الإعلامية حرة طليقة، فهي تخضع لمراقبة صارمة ومهددة بالطرد في أي لحظة تحت مزاعم ودعاوى وحجج معدة مسبقاً في حال صدرت الأوامر للتخلص من هذه الوسيلة أو تلك. ولا داعي لذكر اسم القنوات التي طارت من بعض المدن "الحرة" في ليلة ليلاء بحجة دعمها للمقاومة العراقية، أو بعد أن زعل العم سام من تلك المدينة واستضافتها لبعض الفضائيات المقاومة.
أما في الأردن فقد فشلت المدينة الإعلامية في استضافة أول فضائية أردنية خاصة، وهي فضائية "الغد" بعدما كانت قد طبلت وزمرت المدينة لنفسها لشهور وشهور. لقد ماتت التجربة في مهدها، ولا أدري كيف يمكن لأي وسيلة إعلام تحترم نفسها أن تقدم على البث من تلك المدينة الإعلامية بعدما أخفقت في أول امتحان لها، ولا شك أن القائمين على بعض المشاريع الإعلامية الأجنبية التي تبحث لنفسها عن سقف سيتساءلون: كيف سيسمحون لنا بأن نمارس بعضاً من الحرية إذا كانوا في الأردن غير قادرين على تحمل فضائية وطنية خاصة شحماً ولحماً، فوأدوها في مهدها بعد أن أنفق عليها ممولوها ملايين الدولارات؟

ليست العبرة أبداً في بناء مجمعات فخمة مجهزة بأحدث التكنولوجيا والمعدات والأجهزة الإعلامية الباهرة، بل في الإيمان الحقيقي بحرية الإعلام. ما الفائدة أن أبني ناطحات سحاب إعلامية، ثم ألجأ إلى إغلاق هذه الفضائية أو تلك عندما أتعرض لبعض الضغوط من هذا الجانب أو ذاك؟ أليست عمليات إغلاق بعض القنوات العاملة في بعض المدن الإعلامية العربية بسرعة البرق دون حتى إبداء الأسباب لإرضاء هذا النظام أو ذاك كمن يطلق النار على رجليه؟ ألا تؤكد مثل هذه الإجراءات التعسفية أن الهدف من تلك المدن "المعزولة" ليس تسهيل عمل المؤسسات الإعلامية، بل ضبطها والتحكم بها،لا بل تدجينها؟ لماذا لم نشهد ظهور أي وسيلة إعلام عربية خارجة على السرب في تلك المناطق الحرة المزعومة؟ أليس من الغريب أن بعض الفضائيات الحرة نسبياً تعمل خارج أسوار المدن الإعلامية التي تدّعي الحرية؟
صحيح أن كل الصحف البريطانية كانت تصدر من منطقة واحدة، ألا وهي شارع "فليت ستريت"، شارع الصحافة الشهير في لندن، لكن ذلك الشارع لم يكن رمزاً مزيفاً للحرية الإعلامية بأي حال من الأحوال كمناطقنا الإعلامية "الحرة"، بل كان عنواناً للصحافة المتحررة فعلاً، بدليل أن الصحف والصحفيين العاملين فيه كانوا يتفاخرون بأنهم يعملون في تلك المنطقة ذائعة الصيت، لا بل إن الصحف كانت تبحث لنفسها عن موطئ قدم في ذلك الشارع العريق، حتى لو دفعت مبالغ طائلة، تيمناً باسمه وسمعته.
الإعلام ليس مرضاً معدياً ليتم سلخه عن المجتمع والشعوب في جيوب معزولة، بل هو في صلب الحياة والناس، وأن قفصه في مناطق مسوّرة محاولة مفضوحة لإخصائه وتطويقه وعزله. كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تنشط داخل أقفاص؟ ألا تمتنع بعض الطيور الأبية عن التفقيس داخل القفص؟ أليس مجرد حصر تلك الوسائل داخل محميات، أليست محاولة غير مباشرة لخنقها وتكبيلها؟ أليس القفص رمزاً للقمع وكبت الحريات؟ هل هناك فرق بين أساليب وزارات الإعلام العربية في تدجين وسائل الإعلام وبين أساليب المدن الإعلامية أو المناطق الحرة المزعومة؟ أم تعددت أساليب الرقابة والنتيجة واحدة!!!

إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

هل الاعلام كائن موبوء

26/12/2007


هل الإعلام كائن موبوء كي يحجروا عليه في مدن إعلامية معزولة؟
د. فيصل القاسم
 تنتشر في العالم العربي منذ سنوات كانتشار النار في الهشيم ظاهرة المدن الإعلامية. والبعض يسميها ضحكاً على الذقون "مناطق إعلامية حرة"، فهي في ازدياد مستمر وتكاثر فطري. ومن المتوقع أن يرتفع عددها ليصبح بعدد الدول العربية أو أكثر. وتحتضن تلك المدن والمناطق مقرات ومكاتب مئات الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والأرضية العربية والدولية.
قد يأخذ البعض الانطباع أن إطلاق تلك المدن الإعلامية وتخصيص مناطق حرة لوسائل الإعلام هما خطوة حضارية، ومحاولة صادقة لإفساح المجال للإعلام كي ينشط في عالمه الخاص، بعيداً عن التأثيرات والضغوط المحلية والدولية. وكم كنا نتمنى لو أن الهدف هو فعلاً تحرير وسائل الإعلام ومنحها مناطق حرة لتصول وتجول على هواها، كون الحرية أوكسجين الإعلام الأول والأخير. لكن، ومع الأسف، فإن المدن الإعلامية تهدف، في واقع الأمر، إلى عكس ما يوحي به اسمها. أي أن الغرض منها التضييق على وسائل الإعلام، وحبسها في أماكن محددة لضبطها في أطر معينة، خاصة أن تلك المدن مكبلة بسلاسل من القيود والشروط والضوابط، وحتى يصعب الدخول إليها.
هل الإعلام العربي موبوء، أو مصاب بمرض الجذام أو الجرب أو الجدري أو السل، وغيرها من الأمراض المعدية كي يوضع في حجر صحي يسمونه مجازاً مناطق إعلامية؟ الواضح تماماً أن الأنظمة العربية الحاكمة ما زالت ترى في وسائل الإعلام مرضاً معدياً أو خطراً يجب تطويقه بأسياج وحيطان وجدران عالية.
لقد هرشت السلطات العربية رؤوسها، وتساءلت: كيف يمكن ضبط الثورة الإعلامية التي أطلقتها العولمة؟ كيف يمكن الظهور بمظهر المواكب للثورة المعلوماتية، وفي الوقت نفسه أضبط إيقاع تلك الثورة بطرق غير مباشرة؟ كيف أتعامل مع عصر ظاهرة خوصصة الإعلام المتنامية بشكل مذهل، ولا أبدو معرقلاً لإعلام السوق، أي القائم على المبدأ الحر، العرض والطلب؟ كيف أتعامل مع هذا الكم الهائل من وسائل الإعلام المتعددة الوسائط التي تتكاثر كالفطر، وأبقيها تحت السيطرة؟ وجدتها، وجدتها: لماذا لا أبني لها مناطق خاصة في أماكن جميلة مسيجة وبعيدة عن وسط المدن، وأسميها "مناطق حرة"، فأبدو مواكباً للعصر؟
هل سمعتم بمدن إعلامية في بقية أصقاع العالم؟ هل هناك في بلاد الديمقراطية الحقيقية أي مجمعات إعلامية معزولة؟ أليس من الغريب أن ظاهرة المدن الإعلامية ظاهرة عربية بامتياز؟
كيف نصدق أن غرض هذه المدينة أو تلك تحرير الإعلام وإطلاق العنان له إذا كانت السلطات في البلد الذي يحتضن إحدى المدن الإعلامية يكمم أفواه الصحفيين، ويسجنهم، ويطلق فتاوى لجلدهم وشيطنتهم لمجرد أنهم تحدثوا عن صحة الزعيم، أو تناولوا بعض القضايا البسيطة؟ كيف للمرء ألا يتعجب من هذا النفاق المفضوح؟ كيف نتفاخر بالمدينة الإعلامية مترامية الأطراف ومبانيها الفخمة والهائلة، ثم نضيق الخناق على الصحف خارج المدينة؟ أليست الحرية الإعلامية كلاً لا يتجزأ؟ وأرجو ألا يظن البعض أن المؤسسات الإعلامية داخل المدن الإعلامية حرة طليقة، فهي تخضع لمراقبة صارمة ومهددة بالطرد في أي لحظة تحت مزاعم ودعاوى وحجج معدة مسبقاً في حال صدرت الأوامر للتخلص من هذه الوسيلة أو تلك. ولا داعي لذكر اسم القنوات التي طارت من بعض المدن "الحرة" في ليلة ليلاء بحجة دعمها للمقاومة العراقية، أو بعد أن زعل العم سام من تلك المدينة واستضافتها لبعض الفضائيات المقاومة.
أما في الأردن فقد فشلت المدينة الإعلامية في استضافة أول فضائية أردنية خاصة، وهي فضائية "الغد" بعدما كانت قد طبلت وزمرت المدينة لنفسها لشهور وشهور. لقد ماتت التجربة في مهدها، ولا أدري كيف يمكن لأي وسيلة إعلام تحترم نفسها أن تقدم على البث من تلك المدينة الإعلامية بعدما أخفقت في أول امتحان لها، ولا شك أن القائمين على بعض المشاريع الإعلامية الأجنبية التي تبحث لنفسها عن سقف سيتساءلون: كيف سيسمحون لنا بأن نمارس بعضاً من الحرية إذا كانوا في الأردن غير قادرين على تحمل فضائية وطنية خاصة شحماً ولحماً، فوأدوها في مهدها بعد أن أنفق عليها ممولوها ملايين الدولارات؟

ليست العبرة أبداً في بناء مجمعات فخمة مجهزة بأحدث التكنولوجيا والمعدات والأجهزة الإعلامية الباهرة، بل في الإيمان الحقيقي بحرية الإعلام. ما الفائدة أن أبني ناطحات سحاب إعلامية، ثم ألجأ إلى إغلاق هذه الفضائية أو تلك عندما أتعرض لبعض الضغوط من هذا الجانب أو ذاك؟ أليست عمليات إغلاق بعض القنوات العاملة في بعض المدن الإعلامية العربية بسرعة البرق دون حتى إبداء الأسباب لإرضاء هذا النظام أو ذاك كمن يطلق النار على رجليه؟ ألا تؤكد مثل هذه الإجراءات التعسفية أن الهدف من تلك المدن "المعزولة" ليس تسهيل عمل المؤسسات الإعلامية، بل ضبطها والتحكم بها،لا بل تدجينها؟ لماذا لم نشهد ظهور أي وسيلة إعلام عربية خارجة على السرب في تلك المناطق الحرة المزعومة؟ أليس من الغريب أن بعض الفضائيات الحرة نسبياً تعمل خارج أسوار المدن الإعلامية التي تدّعي الحرية؟
صحيح أن كل الصحف البريطانية كانت تصدر من منطقة واحدة، ألا وهي شارع "فليت ستريت"، شارع الصحافة الشهير في لندن، لكن ذلك الشارع لم يكن رمزاً مزيفاً للحرية الإعلامية بأي حال من الأحوال كمناطقنا الإعلامية "الحرة"، بل كان عنواناً للصحافة المتحررة فعلاً، بدليل أن الصحف والصحفيين العاملين فيه كانوا يتفاخرون بأنهم يعملون في تلك المنطقة ذائعة الصيت، لا بل إن الصحف كانت تبحث لنفسها عن موطئ قدم في ذلك الشارع العريق، حتى لو دفعت مبالغ طائلة، تيمناً باسمه وسمعته.
الإعلام ليس مرضاً معدياً ليتم سلخه عن المجتمع والشعوب في جيوب معزولة، بل هو في صلب الحياة والناس، وأن قفصه في مناطق مسوّرة محاولة مفضوحة لإخصائه وتطويقه وعزله. كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تنشط داخل أقفاص؟ ألا تمتنع بعض الطيور الأبية عن التفقيس داخل القفص؟ أليس مجرد حصر تلك الوسائل داخل محميات، أليست محاولة غير مباشرة لخنقها وتكبيلها؟ أليس القفص رمزاً للقمع وكبت الحريات؟ هل هناك فرق بين أساليب وزارات الإعلام العربية في تدجين وسائل الإعلام وبين أساليب المدن الإعلامية أو المناطق الحرة المزعومة؟ أم تعددت أساليب الرقابة والنتيجة واحدة!!!

إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

هل رفيق الحريرى اهم من بناظير بوتو





13/01/2008





06/01/2008


هل رفيق الحريري أهم من بناظير بوتو؟
د. فيصل القاسم

بعد لحظات فقط من مقتل عضو مجلس النواب اللبناني رفيق الحريري قبل أكثر من عامين بدأ الحديث فوراً عن إجراء تحقيق دولي في مقتله. وقد تنادى المتحمسون من لبنانيين وعرب وأمريكيين وفرنسيين بأعلى أصواتهم إلى رفع القضية فوراً إلى مجلس الأمن الدولي كي يشكل لجنة تحقيق دولية لمعاقبة الجهة التي قد تكون مسؤولة عن تفجير موكب الحريري. لا بل راح البعض مباشرة يطالب باستصدار قرار دولي مشفوع بالبند السابع الذي يجيز استخدام العمل العسكري لفرض المحكمة الدولية بالقوة. وقد عقد المسؤولون الأمريكيون والفرنسيون وقتها ما لا يُعد ولا يُحصى من مؤتمرات صحفية للتعليق على مقتل الحريري، وتجييش الرأي العام، والمناداة بالاقتصاص من قاتليه بشتى الطرق. لقد بدا العالم حينها مهووساً بتحقيق العدالة، وكأن قتل الحريري كان أول جريمة اغتيال على وجه المعمورة. ومن شدة الحزن الدولي المُفتعل على رحيله ظن البعض أن الحريري هو  هابيل الأرض وشهيدها الأول.
لقد اغتيلت رئيسة الوزراء السابقة في الباكستان بناظير بوتو بنفس طريقة اغتيال رفيق الحريري في لبنان. لكن شتان بين ردود الفعل الدولية على الحادثتين! آه كم بدا الوضع مختلفاً تماماً بعد مقتل بناظير بوتو! صحيح أن مجلس الأمن الدولي انعقد فوراً، وأدان الجريمة على عينك يا تاجر، لكن أحداً لم ينبس ببنت شفة حول ضرورة تشكيل محكمة دولية فورية لمعاقبة المسؤولين عن مصرع بناظير بوتو. لقد خرست الإدارة الأمريكية تماماً، وخرس معها المجتمع الدولي المزعوم.
 لماذا لم نسمع مسؤولاً أمريكياً واحداً يتنطع إلى المطالبة بتشكيل محكمة دولية فوراً لمعاقبة قتلة  بوتو ووضعها موضع التنفيذ؟ وإذا كانت رئيسة مجلس النواب الأمريكي قد طالبت على استحياء بمحكمة فهو لرفع العتب وذر الرماد في العيون لا أكثر ولا أقل،  بدليل أن دعوتها لم تحظ بأي اهتمام إعلامي أو رسمي يُذكر، ومرت مرور الكرام كما أريد لها تماماً.
 أين عنتريات الرئيس الأمريكي جورج بوش وحماسه المفرط وهيامه الأسطوري ولوعته الشديدة وغيرته الجنونية على الحريري؟ لماذا لا نسمع له صوتاً مطالباً بمحكمة لبوتو؟ ألم يجعل بوش من محكمة الحريري شغله الشاغل منذ أكثر من سنتين؟ ألم يظهر في وسائل الإعلام أكثر من مئة مرة وهو يزبد ويرغي عن ضرورة المحكمة الدولية لقتلة الحريري.أين "المس" غونداليزا وموظفوها في وزارة الخارجية؟ أين جون بولتون السفير الأمريكي السابق إلى الأمم المتحدة الذي لم ينم الليل، ولم يغمض له جفن وهو يفكر بمعاقبة قتلة الحريري؟ لماذا ذرف الأمريكيون أطناناً من دموع التماسيح على دم الحريري، ولم يتكرموا على بوتو ببضعة قطرات؟ ألم يقل زلماي خليلزاد سفير الولايات المتحدة  الحالي لدى الأمم المتحدة مرحباً بتصويت مجلس الأمن على المحكمة: "إن المجلس أظهر التزامه بالمبدأ القائل إنه يجب ألا تكون هناك حصانة للاغتيالات السياسية في لبنان أو أي مكان آخر"؟ لماذا الحصانة إذن لقتلة بوتو؟ لماذا أعلنت أمريكا الحياد في الحدث الباكستاني، واكتفت  برسائل التعزيه وبعض الترحم على المغدورة بناظير؟ لماذا أعلن البيت الأبيض أنه ليس من الضروري تشكيل لجنة تحقيق دولية في مقتل بوتو بحجة أن الشرطة البريطانية ستساعد الباكستان في التحقيقات؟ ألم يكن بإمكان الشرطة الفرنسية مساعدة اللبنانيين في التحقيق في مصرع الحريري بدلاً من إشغال العالم كله بمقتله؟
ألم تتبن بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وسلوفاكيا والمملكة المتحدة قرار تشكيل المحكمة، ودعت إلى وضعه موضع التنفيذ فوراً؟ أين الفرنسيون أصحاب الشعار المضحك " حرية، عدالة ، مساواة"؟ أين بهلوانيات كوشنير وزير الخارجية الفرنسي "الطريف"؟ لماذا اكتفى بزيارة رفع عتب إلى إسلام أباد لذر الرماد في العيون؟ ألم يقل الإيليزية بعد مقتل الحريري بالحرف الواحد: "إن عدم تشكيل محكمة دولية يعني  تخلي الأسرة الدولية عن واجب الإنصاف والردع"؟ ألم يقل شيراك وقتها إن "إنشاء محكمة ذات طابع دولي يعتبر مركزياً وملحاً لتحقيق العدالة الدولية"؟ ألم يتعهد الرئيس الجديد ساركوزي بتوفير المال اللازم لإطلاق محكمة الحريري؟  لماذا لم نسمع مثل هذا الكلام الفرنسي الجميل بعد مقتل بوتو؟
 أين منظمات حقوق الإنسان التي صدعت رؤوسنا بضرورة الاقتصاص من قتلة الحريري؟
 لماذا ابتلع المجتمع الدولي المزعوم وأبواقه الإعلامية الببغائية بسرعة البرق فرضية أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن اغتيال بناظير بوتو، مع العلم أن القاعدة نفت نفياً قاطعاً تبنيها للعملية، بينما لم يصدقوا رواية "أبو عدس"، "الأرهابي الإسلامي" الذي أعلن مسؤولية تنظيمه عن مقتل الحريري؟ لماذا هذا التمييز العنصري بين "الإرهابيين الإسلاميين"؟ "حرام عليكو، والله حتزعلوهم".
هل لبنان أهم من باكستان صاحبة القنبلة النووية وواحدة من أكبر الدول الإسلامية في العالم؟ لماذا يريد العم سام تحقيق "العدالة" للبنان وهو من أصغر بلدان المعمورة وليس لباكستان الكبرى؟ أم أن دم الحريري الأزرق هو فقط من يستحق عناء البحث والتحقيق؟  هل رفيق أهم من بناظير سليلة البيت الباكستاني السياسي العريق؟ لقد بنى رفيق الحريري حي السوليدير في بيروت، لكن آل بوتو بنوا المفاعل النووي الباكستاني درة الكرامة الباكستانية والإسلامية. أيهما أهم؟
آه كم بدا الفرق شاسعاً بين الحكومتين الباكستانية واللبنانية بعد مصرع رفيق الحريري وبناظير بوتو. لقد تكالبت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان على الاستنجاد بما يُسمى بالمجتمع الدولي والعدالة الدولية المزعومة، فأصبح المجتمع الدولي ربها، والمحكمة الدولية شريعتها، و جورج بوش نبيها، لا بل أقامت  للمحقق الدولي الأفراح والليالي الملاح في ملاهي بيروت. صحيح أن زوج بناظير بوتو طالب بمحكمة دولية على غرار محكمة الحريري، وصحيح أن الرئيس الباكستاني برويز مشرف طلب مساعدة من الشرطة البريطانية للتحقيق في مقتل بوتو، لكنه رفض رفضاً قاطعاً تشكيل محكمة دولية على شاكلة محكمة الحريري تبتز الباكستان لسنوات وسنوات، كما رفض أي مشاركة دولية في التحقيقات الجارية ذات الصلة بملابسات اغتيال بوتو، واعتبر أن المجتمع الدولي "لا يفهم البيئة" الباكستانية أبداً، بينما شرّع اللبنانيون أبوابهم لكل من هب ودب ليدلو بدلوه في "مناقصة" محكمة الحريري.
قد يتساءل البعض لماذا هذا الاستهزاء بتقاعس ما يسمى بالمجتمع الدولي عن تشكيل محكمة خاصة بمصرع بوتو، ثم الثناء على موقف الباكستان الرافض للتحقيق الدولي. أليس في ذلك تناقض صارخ. الجواب طبعاً لا، فليس المقصود بالاستهزاء حث الأسرة الدولية المزعومة على تشكيل محكمة لبوتو، بل فضح ازدواجية العدالة الدولية التي تكيل بألف مكيال. أما التصفيق للموقف الباكستاني الرافض للمحكمة فهو لأنه يفضح تلك الازدواجية بشكل غير مباشر. 
لا داعي أخيراًً لتفسير الماء بعد الجهد بالماء، فقد بات من البديهيات أن المحاكم الدولية تـُشكل لأغراض ليس من بينها أبداً تحقيق العدالة للمغدورين، بل  لأغراض سياسية مفضوحة، أو ربما للتغطية على المجرم الحقيقي، هذا إذا لم يكن الجاني هو نفسه المدعي العام. هل يريد المتهافتون على تفعيل محكمة الحريري مثلاً إنصاف لبنان أم تخريبه واستباحته، ناهيك عن تمرير مشاريع جهنمية في المنطقة؟  ولو توفرت متطلبات مخططهم في باكستان لما توانوا لحظة واحدة عن تشكيل محكمة لبوتو على جناح السرعة، لكنهم لن يعدموا الوسيلة لتخريب باكستان بغير المحكمة الدولية، فما أكثر وسائل الفوضى الهلاكة! فهم لا يكتفون بالاغتيالات الكبرى، بل يستغلون دم  أصحابها لتدمير بلدان بأكملها. وهذا هو الفرق بينهم وبين الحيوانات المفترسة، فالحيوان الضاري يقتل ليأكل، أما هم فيقتلون ليصنعوا من دماء  ضحاياهم وصفات وأدوات للقتل والتقتيل.

إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

تعلموا من كينيا


 تعلمـــــــــوا من كينيا!

د. فيصل القاسم

إذا كانت هناك فوضى خلاقة فعلاً، فقد تجلت في أروع صورها في كينيا، وذلك من خلال أول انتفاضة عالمثالثية عظيمة على ظاهرة الانتخابات المزورة ونتائجها المفبركة في العالم الثالث. فلا يخفى على أحد أن معظم الذين يحكمون وطننا العربي التعيس استمرأوا لعبة تفصيل نتائج الانتخابات والاستفتاءات على مقاساتهم في أقبية وزارات الداخلية. وبالرغم من علم الشعوب بتلك الألاعيب المفضوحة، فإنها لم تحاول يوماً أن تقول لتجار الانتخابات ومزوريها: كفى، بل اكتفت بالتهكم عليها همساً كي لا يصيبها ما أصاب ذلك الرجل العربي الذي صوّت في أحد الانتخابات بـ"لا"، فما أن أخبر زوجته بـ"فعلته الشنيعة" حتى توسلت إليه أن يعود فوراً إلى مركز الاقتراع ليغير "لا" بـ"نعم" كي لا تصبح العائلة في خبر كان، فعاد الرجل، وأخبر "نواطير" صندوق الاقتراع بما فعل، فقالوا له: "لا تقلق، لقد قمنا بتصحيح فعلتك بعد أن خرجت من المركز مباشرة، لكن إياك أن تعيدها ثانية". هذا هو حال الانتخابات في العالم الثالث، تلفيق بتلفيق. لكن الانتفاضة الكينية ربما تكون الشرارة الأولى لثورة عالمثالثية مطلوبة على جريمة تزوير إرادة الشعوب والتلاعب بها بكل صفاقة ووقاحة دون رادع أو احتجاج.
لأول مرة في التاريخ الحديث ينتفض شعب عالمثالثي عنفاً على مزوري إرادته، ويحرق الأخضر واليابس، ويهز عروش المزورين، ويزلزل الأرض تحت أقدامهم، ويجبرهم على التنازلات. إنها ليست "ديمقراطية السواطير"، كما سماها كاتب عربي، بل انتفاضة ديمقراطية حقيقية طال انتظارها. فبينما تبتلع الشعوب العربية بصمت مطبق نتائج الانتخابات والاستفتاءات التي يتلوها عليهم وزراء الداخلية في ختام المسرحيات الانتخابية، وتصل نسبة النجاح فيها إلى مائة في المائة أحياناً، ها هو الشعب الكيني وقد نفض عن نفسه غبار الاستكانة، وراح يُسمع صوته للعالم أجمع، فقد احتلت أخبار الانتفاضة الكينية شاشات العالم لما انطوت عليه من عنف وضجيج وأحداث دامية احتجاجاً على تزوير الانتخابات لصالح الرئيس الحاكم.
لم يقبل الكينيون أن يتوافدوا إلى مراكز الاقتراع، ومن بعد ذلك يجدون أصواتهم وقد ذهبت لمن لا يستحقها، هكذا بجرة قلم على أيدي النظام الحاكم وزبانيته الفاسدين. فقد اعتادت الأنظمة الحاكمة في عالمنا الثالث التي تزِّور - عادة - حتى درجات الحرارة أن تجري انتخابات على عينك يا تاجر، فقط لإيهام العالم بأنها تطبق الديمقراطية، بينما هي في واقع الأمر، تزور أصوات الشعوب، وتفصّل نتائج الانتخابات والاستفتاءات قبل أن تبدأ. ويُحكى أن وزير داخلية عربياً كان بلده على وشك إجراء استفتاء، فأراد أن تكون نتيجته ضمن الأرقام المعمول بها عربياً، فاتصل ذات يوم بوزير دولة عربية أخرى، وسأله عن نتيجة الاستفتاء الذي ستجريه الدولة الاخرى بعد شهور، فقال له: "والله نفكر بأن تكون نسبة الفوز لدينا ثمانية وتسعين ونصف بالمائة". قد يبدو الأمر نكتة سمجة، لكنه حقيقة واقعة، والويل كل الويل لمن لا يبصم عليها بالعشرة.
وكم أعجبت بكلام سيف الإسلام القذافي ذات يوم عندما رد على الذين ينتقدون ليبيا لأنها لا تجري انتخابات، فقال ما معناه: "من أسهل ما يكون أن نجري انتخابات كتلك التي يجرونها في البلدان العربية المجاورة، لكننا نفضل ألا ندخل تلك اللعبة. صحيح أن كل الدول العربية، بما فيها ليبيا، في الديمقراطية شرقُ، لكن على الأقل، فإن المسؤول الليبي المذكور كان صريحاً عندما ألمح إلى صورية ومهزلة ما يجري من انتخابات واستفتاءات في البلدان العربية، وبأنه يعرف البئر وغطاءه، ولا يريد تكرار التجربة المضحكة. أي إنه من الأفضل أن تقول أنا غير ديمقراطي على أن تضحك على الشعوب بانتخابات مفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها. لكن بينما الشعوب العربية مستمتعة بمهازلها الانتخابية الكوميدية، أبى الشعب الكيني إلا أن يضحي بدمه واستقراره من أجل انتخابات نظيفة خالية من التزوير والفبركة والتلاعب.
قد يرى البعض في أحداث كينيا التي خلفت مئات الألوف من القتلى والجرحى والمشردين مثالاً على التخلف وبداية لتفكيك البلد الأكثر استقراراً في إفريقيا. لكن لماذا لا نقول: إن القضية التي استشهد من أجلها بعض الكينيين تستحق ذلك الثمن المدفوع من الدماء والفوضى؟ إلى متى تتوخى شعوب العالم الثالث السلامة والاستكانة على حساب التصحيح الديمقراطي، حتى لو اقترن بالعنف والدماء؟ متى حصل شعب عبر التاريخ على حقوقه الديمقراطية إلا عن طريق التضحيات؟ متى قدم الحكام الديمقراطية لشعوبهم على طبق من ذهب؟ أليس كل ما يُمنح يُمنع؟ ألم تولد الديمقراطية تاريخياً من رحم الثورات والانتفاضات والدماء الغزيرة؟ أليست الهبـّة الكينية العارمة درساً لكل من يحاول أن يتلاعب بنتائج الانتخابات في البلاد في المستقبل؟ ألم يلقن المنتفضون الكينيون مزوري إرادة الشعب الكيني درساً لن ينسوه أبداً؟ ألن يحرضوا غيرهم من الشعوب الخامدة على التصدى في المستقبل لعمليات الغش والتزوير الانتخابية، وربما تدفع البعض إلى إجراء انتخابات حرة نسبياً؟ ألم تحذر المعارضة السودانية النظام الحاكم قبل أيام، بأنه سيواجه أحداثاً مشابهة لما شهدته كينيا، فيما لو تلاعب بنتائج الانتخابات؟
ألا يؤكد علماء السياسة والاجتماع أن أهم عنصر لتحقيق الديمقراطية الحقيقية يكمن في الحراك الاجتماعي، أي إن الديمقراطية لا يمكن أن تولد إلا من صُلب الصراعات والاشتباكات، حتى لو كانت عنيفة ودموية في أغلب الأحيان، فالوضع المزدهر الذي آلت إليه أوروبا وأمريكا مثلا لم يأت فجأة، فالمجتمعات الغربية لم تتناحر بعضها مع بعض فقط، بل شهدت أيضا حروباً وصراعات داخلية أشد وأعتى، فأمريكا مرت بحرب أهلية دوّنها التاريخ حتى وصلت إلى ديمقراطيتيها الحالية. أما بريطانيا، كما يجادل بشير موسى نافع،" فلم تكن الديمقراطية فيها ممكنة لولا انتهاء الصراعات الدموية منذ القرن السادس عشر... لقد وُلد الإجماع البريطاني في نهاية مائتي سنة من الحروب الأهلية الطاحنة، ووُلد هذا الإجماع في ألمانيا من أتون اضطرابات كبيرة. ولا ننسى ثورات فرنسا وإسبانيا وغيرهما". هل كانت فرنسا لتحظى بديمقراطيتها الحالية لولا الثورة الفرنسية الدامية؟ أما إيطاليا فقد عاشت كغيرها من الدول الأوروبية فترات عصيبة من الصراعات والمشاحنات الداخلية قبل أن تستقر فيها الأمور، وتصل إلى مبتغاها الديمقراطي.
بعبارة أخرى فإن حالة الاستقرار والديمقراطية كانت نتيجة نضال عسير بين أبناء البلاد أنفسهم، فكانت الجماعات والأحزاب والفصائل تشتبك، وتتناحر، ويقاتل بعضها البعض حتى وصلت إلى الإجماع الوطني المطلوب، فمن أهم مقومات بناء الديمقراطية، كما يرى بعض المفكرين، هو الإجماع الداخلي بعد الحراك والصراع، ومن ثم التوصل إلى وضع مشترك يحسم الأمور، ويتفق عليه الجميع، فمن دون ذلك تظل البلاد في حالة مخاض. وكلنا يعرف أن المرأة لا تلد مولودها إلا بعد أن تنتهي من مرحلة المخاض المعروفة بالطلق. أما نحن فنريد أن نصنع العجة دون أن نكسر بيضة واحدة!
متى تتعلم أحزاب المعارضة العربية من نظيراتها الكينية؟ متى تقول كفى للتزوير ودبلجة نتائج الانتخابات العربية حسب الطلب؟ متى تكسر البيض لصناعة العجة؟ لم يبق لنا إلا أن نقول للمعارضين العرب: يا خيبتكم، تعلموا من كينيا. «فيفا كينيا»، تحيا كينيا!!
إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

الجائزة الكبرى لايران ولنا الرقص مع الامريكان

20/01/2008


 الجائزة الأمريكية الكبرى لإيران ولنا الرقص مع جورج بوش!
د. فيصل القاسم
هرشت رأسي مرات ومرات كي أفهم سبب ذلك الاحتفاء العربي الأسطوري بجورج بوش أثناء جولته الأخيرة في المنطقة العربية، لكنني لم أجد سبباً وجيهاً واحداً يبرر ذلك. لا أريد هنا أن أتحدث عن تجاهل مستقبليه وتعاميهم عما فعله مغول العصر بالعراقيين، فقد أخذ هذا الجانب حقه في الكثير من التعليقات النارية، وخاصة على متن الانترنت. وربما نتفهم تصرف الذين استقبلوا بوش بالأفراح والليالي الملاح على أنها رسالة للعرب المنكوبين في العراق وفلسطين ولبنان والصومال كي يقلعوا شوكهم بأيديهم. وهذا أمر قابل للاستيعاب وربما الغفران، على اعتبار أن الانحطاط العربي الأخلاقي والإنساني قد وصل إلى الحضيض. لكن ما يجعل المرء يستغرب استقبال الرئيس الأمريكي بالأحضان، هو أن ذلك الزائر كان قد أساء للذين استقبلوه، وخذلهم، بقدر ما أساء لغيرهم من العرب. فهل يُعقل أن يقوموا بإكرام ضيف أضر بمصالحهم وسلامة بلدانهم وأمنهم الوطني بشهادة وسائل إعلامهم وإعلامييهم؟
تقول كاتبة محسوبة على الذين استقبلوا بوش على طريقة ألف ليلة وليلة: إن الحرب الأمريكية على العراق "ضمنت لملالي طهران نفوذاً ضخماً في العراق"، وإن القيادات العربية تلقت صفعة هائلة أيقظتها إلى "واقع الورطة التي قادتها إليها إدارة جورج بوش عندما نصبت الجمهورية الإسلامية في إيران دولة كبرى في منطقة الخليج والشرق الأوسط. فعلت ذلك بجربها في العراق فقدمته مُدجناً وضعيفاً و"شيعياً" إلى إيران بعدما كانت إدارة بوش قد انهمكت في التخلص من نظام طالبان - عدو إيران". وشهد شاهد من أهلهم.
وتماشياً مع الوقائع الماثلة أمام أعيننا، كنا نتوقع أن يطلق الإيرانيون، لا العرب، الأهازيج والزغاريد، وأن يقيموا المهرجانات الترحابية الطنانة احتفالاً بوطوء قدمي الرئيس الأمريكي تراب الشرق الأوسط، حتى لو لم يزر بلاد فارس. لكن بينما كان العرب يذبحون القرابين، ويفرشون الأرض بالورود تحت قدمي بوش، كان الإيرانيون يستقبلونه بالتصريحات النارية، ويستنكرون جولته في المنطقة، ويتهكمون عليه وعلى بلاده، مع العلم أن "الضيف الكبير" جعل "حلفاءه" العرب، بشهادة الكاتبة أعلاه، في وضع "كش مات" بلغة الشطرنج (الذي اخترعه الفرس) أمام الأحجار الإيرانية، بينما رفع عدوه المزعوم إيران إلى مصاف لم تكن تحلم بها أبداً. لقد قدم لها على طبق من ذهب ما فشلت في تحقيقه على مدى ثماني سنوات من حرب ضروس مع العراق التي، وللسخرية، مولت جزءاً كبيراً منها بعض الدول العربية التي احتفلت بالرئيس الأمريكي احتفالاً تاريخياً مشهوداً.
لا أفهم أبداً كيف للذين استماتوا في تكريم الرئيس الأمريكي أن يتناسوا أن سيد البيت الأبيض أصبح يتقاسم الآن منطقتهم استراتيجياً مع من أوهمهم بأنه يقاومه، ويصد تغلغله وتمدده في المنطقة بالتحالف معهم؟
ومما يجعل "ضبانات العقل" تطير من مكانها أن وسائل إعلام الذين استقبلوا بوش استقبال الأبطال والفاتحين ما لبثت تروج لما يُسمى بـ"العراق الجديد"، وتهلل لحكامه الجدد، وتطالب العرب أجمعين بدعمه، مع علمها التام بأن حكام العراق الجدد أدوات إيرانية بشهادة القاصي والداني. هل يستطيع أحد أن يفسر لنا هذه المعادلة العويصة جداً، من جهة نسمع الجميع يحذر من تأثير إيران المتنامي في المنطقة، خاصة بعد حصولها على التكنولوجيا النووية، ومن جهة أخرى نرى دعماً عربياً منقطع النظير لأزلام إيران وملاليها في العراق. هل فكر أحد الذين كانوا في استقبال بوش وإقامة الاحتفالات الضخمة على شرفه أن يهمس في أذنه ليسأله سؤالاً بسيطاً جداً: " ألا تظن يا سيادة الرئيس أنك بعتنا بقشرة بصل؟ ألا تعتقد أننا أصبحنا بفضل "سياساتكم الحكيمة" بين مطرقة اليانكي والسندان الإيراني؟ ألا تتفق معنا أن شعوبنا ستساءلنا، ولو في سرها، عن سر ولعنا بسيادتك والتهافت على الترحيب "بطلتك البهية" وأنت الذي خذلتنا، وناصرت خصومنا"؟
آه كم شعرت برغبة شديدة للقهقهة عندما قرأت كلاماً في غاية الكوميديا لرئيس تحرير عربي يعتبر فيه "الحفاوة في استقبال بوش... رسالة الى كل من إيران وسوريا مفادها "أيها الأعداء الأعزاء شكراً لكم فخطركم على المنطقة منحني الحفاوة.. وجعل الدول العربية حريصة على تدعيم التحالف مع القوة العظمى، وكذلك أوروبا". لا أدري لماذا تناسى رئيس التحرير الموقر أن الإدارة البوشية هي التي مكنت إيران في المنطقة بإطلاق يدها في العراق وحتى أفغانستان، بشهادة مسؤولين عرب وإيرانيين كبار. لذلك بدلاً من ذر الرماد في العيون وتحريف الحقائق كان حرياً بالذين ما زالوا يطبلون ويزمرون للرجل الذي، برأيهم، غير "مسار العلاقات الأمريكية ـ العربية، والتحالفات الاستراتيجية" إلى الأفضل، كان حرياً بهم أن يذرفوا دموع الندم على مشاركتهم واشنطن في تمكين إيران وجعلها القوة الإقليمية الأولى في المنطقة على حسابهم.
لكن أرجو أن لا يفهم أحد أن المقصود من الكلام أعلاه التحريض على إيران أو دق أسافين بينها وبين العرب. معاذ الله، فقد كان دخول العاهل السعودي الملك عبد الله إلى قاعة مؤتمر مجلس التعاون الخليجي الأخير في الدوحة وهو يشبك كفه بكف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من أجمل المناظر السياسية التي شاهدتها في السنوات القليلة الماضية، مع الاعتراف بإن إيران شاطرة، وألف حلال على الشاطر. وكم أتمنى أن نعبر من الآن فصاعداً إلى ضفة الشاطرين القريبة على جسور نبنيها بأيدينا، لا عبر الجسر الأمريكي الذي خسف بنا إلى أسفل السافلين، وهو ما بدأ يفعله عرب الاعتدال مشكورين ولو متأخرين.
لكن تلك الاستفاقة المتأخرة من وهم الاعتماد على الأمريكي في كل شيء يبقى مشكوكاً فيها؟ فلو كانت استفاقة حقيقية لما حظي ما أسماه كاتب خليجي بـ"مسيلمة العصر" بذلك الاستقبال الخرافي على أيدي مضيفيه العرب. فالخوف كل الخوف أن يكون أسمى ما يسعى إليه البعض هو أن يكون كاوبوي البيت الأبيض راضياً عنهم ومباركاً لهم بقاءهم على كراسيهم لا أكثر ولا أقل، دون أن يعلموا أن تلك الكراسي أصبحت تقف الآن على أرض أكثر اهتزازاً وأقل أماناً بعدما ازداد عدد المتناطحين على النفوذ في المنطقة العربية؟
هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته





إقرأ المزيد ليست هناك تعليقات:

المشاركات الشائعة